بكين 14 نوفمبر 2024 (شينخوا) واجه المشككون والمتشائمون بشأن قوة الإنفاق الاستهلاكي في الصين واقعا صارما مع بلوغ مهرجان التسوق السنوي عبر الإنترنت في البلاد ذروته يوم الاثنين الماضي، الأمر الذي عكس قوة الاستهلاك الكبيرة لدى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وأعلن عمالقة التجارة الالكترونية، بما في ذلك ((علي بابا)) و((جيه دي.كوم))، عن زيادات مثيرة للإعجاب في الإيرادات وعدد المستخدمين خلال مهرجان 11.11 للتسوق عبر الإنترنت لهذا العام، والذي استمر من أكتوبر الماضي إلى منتصف نوفمبر الجاري.
وقد يعد هذا المهرجان السنوي الكبير للتسوق، والذي تزامن مع تنفيذ الحكومة الصينية سلسلة من التدابير المعززة للنمو، بما في ذلك استبدال السلع الاستهلاكية القديمة بأخرى جديدة، بمثابة برهان على مدى فعالية السياسات التي تنتهجها الحكومة الصينية.
وشهدت شركة ((جيه دي.كوم)) أكثر من 200 في المائة من النمو السنوي في حجم معاملاتها عبر أكثر من 500 فئة من الأجهزة المنزلية والأثاث، في حين ارتفعت مبيعات تاجر التجزئة ((سونينغ)) بنسبة 247 في المائة.
وعلى الرغم من قوة نشاط السوق، فإن بعض الروايات في الخارج قامت مؤخرا وبشكل مستمر بتحريف أو تشويه المشهد الاستهلاكي، وكثيرا ما كان ذلك انطلاقاً من أطر عفا عليها الزمن. إن ما يسمى "أزمة الاستهلاك" محض خرافة بعيدة عن الواقع؛ وإن الادعاءات بوجود "تحفيز مخيب للآمال" ليست أكثر من تأكيدات سابقة لأوانها؛ وإن فكرة أن الصين "غير مستعدة للتحول إلى اقتصاد مدفوع بالاستهلاك" خاطئة إلى حد كبير.
وإن أغلب التفسيرات الخاطئة للسياسات الاقتصادية التي تنتهجها الصين تنبع من توقع أن تعمل تلك السياسات كأقراص فوارة أُسقطت في الماء. يتمسك البعض بالعادة القديمة المتمثلة في توقع رد فعل سريع دراماتيكي في شكل انفجار مفاجئ للفقاعات والأنشطة التي تبدو وكأنها تحل التحديات الاقتصادية بسرعة. ويؤدي هذا التوقع إلى نفاذ الصبر وسوء الفهم.
إن نهج الصين أكثر دقة وتوازنا وغالبا ما يركز على الحلول طويلة الأجل. وخلافا للتأثير السريع والزائل الذي تخلفه الأقراص الفوارة، فإن الاستراتيجيات الاقتصادية الصينية تنظر إلى تأثير مستدام لا يغطي النمو الثابت فحسب، بل ويؤدي أيضا في نهاية المطاف إلى تنمية ذات جودة أعلى.
وقد نفذت الحكومة تدابير منهجية لإطلاق العنان للإمكانات الاستهلاكية الهائلة لدى الأمة. وتشمل هذه التدابير زيادة المدخلات المالية وزيادة دخول الناس وإزالة الحواجز السوقية وفتح آفاق استهلاكية جديدة من خلال الابتكار التكنولوجي وزيادة الانفتاح.
وقد أظهرت بعض هذه السياسات فعاليتها بالفعل. أحد الأمثلة القوية هو برنامج استبدال السلع الاستهلاكية القديمة بأخرى جديدة، حيث بلغ حجمه 150 مليار يوان (20.7 مليار دولار أمريكي) عن طريق سندات خزانة خاصة طويل الأجل للغاية تم تخصيصها للحكومات المحلية لتنفيذ ذلك البرنامج. وقد أصبح التأثير مرئيا بالفعل، وليس فقط في الإنفاق المتزايد على الأجهزة المنزلية. وعكست مبيعات السيارات منحاها الهبوطي في أكتوبر، مع ارتفاع مبيعات سيارات الطاقة الجديدة بنسبة 49.6 بالمائة على أساس سنوي.
وقد رسمت المؤشرات الاقتصادية الأوسع نطاقا صورة أكثر تشجيعا. وبلغت لوجستيات التجارة الإلكترونية ذروتها في خمس سنوات من حيث حجم الأعمال التجارية في أكتوبر الماضي، بينما أظهر الإنفاق على خدمات المستهلكين نشاطا متجددا بوتيرة أسرع، لا سيما في مجال الضيافة وتناول الطعام.
وهناك سياسات أخرى تستغرق بعض الوقت لكي تحدث تأثيرا ملموسا. ومن شأن الخطوة الأخيرة المتمثلة في زيادة سقف ديون الحكومات المحلية بمقدار 6 تريليونات يوان، مع معالجة الديون الخفية في المقام الأول، أن تتيح للحكومات المحلية مجالا ماليا أكبر لزيادة الاستثمارات في الرفاهية العامة. وهذا أمر أساسي للتوسع الاستهلاكي في الأمد البعيد، حيث يتعامل مع العوامل الأساسية التي تحد من السلوك الاستهلاكي والقدرة على الإنفاق.
وسيكون من المضلِّل أن نقلل من أهمية التزام الحكومة الصينية بإعادة التوازن إلى الاقتصاد. الاستهلاك هو بالفعل المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي في البلاد. فخلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024، ساهم الاستهلاك بـ49.9 بالمائة من النمو الاقتصادي للبلاد، متجاوزا بشكل كبير الاستثمارات التي شكلت 26.3 في المائة.
فضلاً عن ذلك، وبدلاً من اعتبار الاستهلاك والاستثمار من الأولويات المتنافسة، فإن الصين تهدف إلى تعزيز حلقة حميدة بين الاثنين. وتُبرز مجموعة السياسات الداعمة المدروسة بعناية النهجَ الكلي الذي تتبعه الدولة لتعزيز الاستهلاك وتصميمها على تسخير جميع مواردها بكفاءة، ليس لتحقيق الأهداف الاقتصادية السنوية فحسب، بل أيضا لتحقيق نمو مستدام وعالي الجودة من خلال الإصلاحات الهيكلية.
ومن هذا المنظور، فإن المزاعم بأن "النهج الجماعي في التعامل مع التخطيط الاقتصادي" الذي تتبناه الصين يعمل على خنق الإنفاق الاستهلاكي، تعد تبسيطا مفرطا لحقيقة جلية. وإن مثل هذه المزاعم تمثل سردا مريحا ولكنه معيب، وكثيرا ما يروجه هؤلاء الذين يفشلون في فهم الإدارة الاقتصادية البارعة للصين، وهي الاستراتيجية التي تجمع بمهارة بين الدور الذي تلعبه السوق والدور الذي تضطلع به الحكومة.
ويساعد هذا النمط الفعّال في تشكيل طبقة متوسطة متنوعة ومتنامية تواقة إلى المنتجات والخدمات ذات الجودة العالية، وتتمتع بثقة أقوى للمستهلك مقارنة بأجزاء أخرى كثيرة من العالم. وقد كشفت دراسة أجرتها مؤسسة ((ماكينزي)) في أغسطس الماضي أن 59 بالمائة من المستهلكين الصينيين توقعوا انتعاشة اقتصادية في غضون أشهر، وهو ما يتجاوز التفاؤل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان، حتى قبل أن تبدأ التدابير الإضافية الداعمة للنمو.
فالشركات الأجنبية التي تعترف بالقوة الشرائية الهائلة للمستهلكين الصينيين وأذواقهم المتطورة آخذة في التوسع في الصين. وتتوقع العلامة التجارية للملابس الرياضية الكندية ((لولوليمن))، التي شهدت نموا قويا منذ دخولها البر الرئيسي الصيني في عام 2013، أن تصبح السوق الصينية ثاني أكبر سوق لها على مستوى العالم، مع بلوغ عدد متاجرها في البلاد أكثر من 200 بحلول عام 2026.
وليس المشهد الاستهلاكي في الصين مجرد قصة رواج أو ركود بسيطة، بل إنه قصة معقدة من التحول المثير. إن تجنب "عقلية الأقراص الفوارة" أمر أساسي لتقييم المشهد الاستهلاكي في الصين بدقة. فمن خلال استغلال التغيرات الدقيقة والفرص الجديدة بصبر ورؤية ثاقبة، يستطيع رجال الأعمال والمراقبون اكتشاف سوق وثروة من الإمكانات الدائمة في واحدة من القواعد الاستهلاكية الأكثر ديناميكية على مستوى العالم.