شبكة "الحزام والطريق" للتعاون الإخباري والإعلامي

شبكة "الحزام والطريق" للتعاون الإخباري والإعلامي>>الأخبار>>أخبار الصين

مقالة: حكمة الصعود الصامت... فلسفة الزمن والتنمية في الخطة الخمسية الخامسة عشرة الصينية

2025-12-22 16:39:36   
مقالة: حكمة الصعود الصامت... فلسفة الزمن والتنمية في الخطة الخمسية الخامسة عشرة الصينية

بقلم: د.أحلام بن إبراهيم

في كل خمس سنوات، حين تضع الصين خطتها الجديدة، لا تبدو وكأنها تكتب برنامجًا تنمويًا، بل كأنها تضيف فصلًا آخر إلى سرد طويل يصنع هوية أمة تعرف كيف تتقدم دون ضجيج، وكيف تبني قوتها من داخلها، وكيف تفتح للمستقبل بابًا لا يراه غيرها. والخطة الخمسية الخامسة عشرة ليست استثناءً من هذا الإيقاع؛ إنها أشبه بتمرين فلسفي على هندسة الزمن، وعلى جعل الحاضر قادرًا على احتضان ما لم يولد بعد.

ليست القوة في أن تتقدم بسرعة، بل في أن تعرف إلى أين تتقدم، وكيف تحفظ توازن الخطوة كي لا تنكسر المسيرة. ولهذا تبدو الخطة الجديدة كحوار داخلي عميق بين الصين ونفسها: كيف تنتقل من اقتصاد يصنع الأشياء إلى اقتصاد يصنع المعنى؟ كيف تتحول المعرفة من أداة للنمو إلى نَفَسٍ جديد ينعش روح الاقتصاد؟ وكيف يصبح الإنسان محورًا للتنمية لا بوصفه عاملًا في دورة الإنتاج، بل بوصفه حاملًا لخيال الأمة وقدرتها على الإبداع؟

الصين في خطتها الجديدة لا تُجاري إيقاع العالم، بل تعيد كتابة الإيقاع نفسه. فالتحديات التقنية والاقتصادية التي يواجهها العالم ليست بالنسبة لها حالة طوارئ، بل فرصة لإعادة ترتيب علاقتها بقدراتها الداخلية. فالبلد الذي استثمر طويلاً في التعليم والبحث والابتكار، بات قادرًا اليوم على تحويل هذه الجهود إلى طاقة تجعل الصناعات أكثر ذكاءً، والاقتصاد أكثر مرونة، والتنمية أكثر جاذبية للمستقبل.

ولأن المستقبل لا يُبنى بالسرعة وحدها، بل بالثبات، تظهر في الخطة نزعة واضحة نحو تعميق الاستدامة. لا استدامة الطاقة أو البيئة فقط، بل استدامة الازدهار نفسه: أن يزدهر الإنسان كما تزدهر الصناعة، وأن ينمو الوعي كما تنمو المدن. هذه ليست رفاهية فكرية، بل فلسفة تنموية تعرف أن الأمم لا تُقاس بما تنتجه فقط، بل بما تصنعه في داخلها من انسجام وطمأنينة وثقة.

والخطة، في بعدها الأعمق، تبدو كأنها محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. فالصين لا تنظر إلى التكنولوجيا كغاية، بل كباب واسع يفتح أمام المجتمع فرصًا جديدة في التعليم، والعمل، والخدمات، وجودة الحياة. التكنولوجيا هنا ليست إدارة للآلة، بل إدارة للزمن: كيف نختصر الطريق دون أن نفقد التفاصيل التي تمنح الطريق معناه؟ وكيف نبني اقتصادًا رقميًا لا يُضعف الروابط الاجتماعية بل يعززها بفهم أعمق لحاجات الناس وإيقاع حياتهم؟

ولعل أجمل ما في الخطة الخامسة عشرة هو هذا الحس الهادئ الذي يسكن بين سطورها: إحساس بأن التنمية ليست سباقًا، بل رحلة طويلة يتقن فيها المجتمع فنّ الصعود المستمر. فالصعود الذي لا يرتكز على جذور عميقة يتحول إلى قفزة قصيرة، أما الصعود الذي ينبع من فهم الذات، ومن الانسجام بين الإنسان ومحيطه، فإنه يتحول إلى مسار طويل الأمد، لا تهزه رياح العالم ولا تغيره مفاجآت الاقتصاد.

هكذا تبدو الصين في خطتها الجديدة: دولة تعرف أن قوتها ليست في حجمها فقط، بل في قدرتها على التفكير بعيدًا، وعلى تحويل التعقيد إلى وضوح، وعلى مزج الخيال العملي برؤية فلسفية للتنمية. إنها تجربة لا تقلد أحدًا، ولا تتعجل خطوة، بل تحفر طريقها بحكمة من يعرف أن الحضارة ليست مشروعًا اقتصاديًا، بل مشروع وعي يربط الماضي بالحاضر، ويمتد بالمستقبل إلى مدى أبعد مما تراه العين المجردة.

ومن هذا الفضاء الفكري، تبدو الخطة الخمسية الخامسة عشرة كحركة هادئة في بحر واسع: لا تُحدث ضجيجًا، لكنها تغيّر اتجاه الموج. إنها امتداد لفلسفة صينية عميقة ترى أن الطريق يُصنع بخطوات ثابتة، وأن الغد يُبنى بصبر اليوم. الأمة التي تعرف كيف تستمع لصوتها الداخلي تستطيع أن تسير في أي عصر دون أن تفقد بوصلتها أو تتخلى عن حكمتها. الزمن، كما تفهمه الصين، ليس نهرًا يجرف من لا ينتبه لمساره، بل حليف لمن يعرف كيف يعبره بثبات ورؤية لا تنطفئ.

هذه الخطة ليست مجرّد إطار تنموي مُرقّم للسنوات المقبلة، بل إعلان هادئ عن ثقة الدولة بنفسها، وبإنسانها، وبقدرتها على جعل التنمية ممارسة حقيقية للإبداع تتجسد على أرض الواقع، حيث يجتمع الفكر، والعمل، والاستدامة في مسار طويل يوازن بين العقل والإحساس والخيال العملي.